السيدة خديجة اسمها وشرف نسبها
هي أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد بن أسدٍ بن عبد العزَّى بن قصي القرشية الأسدية ، وأمها فاطمة بنت زائدة بنت جندب . ولدت بمكة سنة 68 ق.هـ ، وكانت من أعرق بيوت قريشٍ نسبًا وحسبًا وشرفًا ، وقد نشأت على التخلُّق بالأخلاق الحميدة ، وكان من صفاتها الحزم والعقل والعفة . يلتقي نسبها بنسب النبي
في الجد الخامس ، فهي أقرب أمهات المؤمنين إلى النبي
، وهي أول امرأة تزوَّجها ، وأول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين .
السيدة خديجة في الجاهلية
في الجاهلية وقبل لقاء رسول الله
كانت السيدة خديجة - رضي الله عنها - امرأة ذات مال وتجارة رابحة ، فكانت تستأجر الرجال لتجارتها وتبعثهم بها إلى الشام ، ومرت الأيام ووصل إلى مسامعها ذكر " محمد بن عبد الله " كريم الأخلاق ، الصادق الأمين ، وكان قلَّ أن تسمع في الجاهلية بمثل هذه الصفات ، فأرسلت إليه وعرضت عليه الخروج في مالها تاجرًا إلى الشام ، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار .
وحينها قَبِل ذلك منها
، وخرج في مالها ومعه غلامها " ميسرة " حتى قدم الشام ، وهناك نزل رسول الله
في ظل شجرة قريبًا من صومعة راهب ، فاطّلع الراهب إلى ميسرة وقال : من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة ؟ قال ميسرة : هذا الرجل من قريش من أهل الحرم . فقال له الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة قَطُّ إلا نبي . ثم باع رسول الله
سلعته التي خرج بها واشترى ما أراد ، ولما قدم مكة على السيدة خديجة بمالها باعت ما جاء به ، فربح المال ضعف ما كان يربح أو أكثر .
وأخبرها ميسرة عن كرم أخلاقه
وصفاته المتميزة التي وجدها فيه أثناء الرحلة ، فرغبت في الزواج منه ، فتزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة ، والسيدة خديجة يومئذ بنت أربعين سنة .
وكان قد قُدِّر لخديجة - رضي الله عنها - أن تتزوج مرتين قبل أن تتشرَّف بزواجها من رسول الله
، وقد مات عنها زوجاها ، وتزوجها رسول الله
قبل الوحي ، وعاشت معه خمسًا وعشرين سنة ؛ فقد بدأ معها في الخامسة والعشرين من عمره ، وكانت هي في الأربعين ، وظلا معًا إلى أن توفاها الله وهي في الخامسة والستين ، وكان عمره
في الخمسين ، وهي أطول فترة أمضاها النبي مع هذه الزوجة الطاهرة من بين زوجاته جميعًا ، وهي - وإن كانت في سن أمِّه
- أقرب زوجاته إليه ؛ فلم يتزوج عليها غيرها طوال حياتها ، وكانت أم ولده الذكور والإناث إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية رضي الله عنها ، فكان له منها
: القاسم وبه كان يُكنَّى ، وعبد الله ، وزينب ، ورقية ، وأم كلثوم ، وفاطمة .
إسلام السيدة خديجة
كانت السيدة خديجة - رضي الله عنها - قد ألقى الله في قلبها صفاء الروح ، ونور الإيمان ، والاستعداد لتقبُّل الحق ، فحين نزل على رسول الله
في غار حراء { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق: 1] ، رجع ترجف بوادره وضلوعه ، حتى دخل على السيدة خديجة فقال : " زملوني زملوني ". فزملوه حتى ذهب عنه الروع .
وهنا قال لخديجة رضي الله عنها : " أَيْ خديجة ، ما لي لقد خشيت على نفسي ". وأخبرها الخبر ، فردت عليه السيدة خديجة - رضي الله عنها - بما يطيِّب من خاطره ، ويهدئ من روعه فقالت : " كلا أبشر ، فوالله لا يخزيك الله أبدًا ، فوالله إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكلَّ ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ".
ثم انطلقت به رضي الله عنها حتى أتت به ورقة بن نوفل - وهو ابن عم السيدة خديجة رضي الله عنها ، وكان امرأً تنصَّر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي - فأخبره النبي
خبر ما رأى ، فأعلمه ورقة أن هذا هو الناموس الذي أُنزل على موسى
.
ومن ثَمَّ كانت السيدة خديجة - رضي الله عنها - أول من آمن بالله ورسوله وصدَّق بما جاء به ، فخفف الله بذلك عن رسول الله
؛ لا يسمع شيئًا يكرهه من ردٍّ عليه وتكذيب له فيحزنه إلا فرَّج الله عنه بها ، إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهوِّن عليه أمر الناس .
السيدة خديجة .. العفيفة الطاهرة
كان أول ما يبرز من ملامح السيدة خديجة الشخصيَّة صفتي العفة والطهارة ، هاتان الصفتان التي قلما تسمع عن مثلهما في بيئة لا تعرف حرامًا ولا حلالاً ، في بيئة تفشت فيها الفاحشة حتى كان البغايا يضعن شارات حمراء تنبئ بمكانهن .
وفي ذات هذه البيئة ، ومن بين نسائها انتزعت هذه المرأة العظيمة هذا اللقب الشريف ، ولقبت بـ" الطاهرة "، كما لُقب
أيضًا في ذات البيئة بـ" الصادق الأمين " ، ولو كان لهذه الألقاب انتشار في هذا المجتمع آنذاك، لما كان لذكرها ونسبتها لأشخاص بعينهم أهمية تذكر .
السيدة خديجة.. الحكيمة العاقلة
وتلك هي السمة الثانية التي تميز بها شخص السيدة خديجة رضي الله عنها ، فكل المصادر التي تكلمت عن السيدة خديجة - رضي الله عنها - وصفتها بـ" الحزم والعقل "، كيف لا وقد تجلت مظاهر حكمتها وعقلانيتها منذ أن استعانت به
في أمور تجارتها ، وكانت قد عرفت عنه الصدق والأمانة .
ثم كان ما جاء في أبلغ صور الحكمة ، وذلك حينما فكرت في الزواج منه
، بل وحينما عرضت الزواج عليه في صورة تحفظ ماء الوجه ؛ إذ أرسلت السيدة نفيسة بنت منية دسيسًا عليه بعد أن رجع من الشام ؛ ليظهر وكأنه هو الذي أرادها وطلب منها أن يتزوجها .
ونرى منها بعد زواجها كمال الحكمة وكمال رجاحة العقل ، فها هي تستقبل أمر الوحي الأول بعقلانية قلَّ أن نجدها في مثل هذه الأحوال بالذات ؛ فقد رفضت أن تفسِّر الأمر بخزعبلات أو أوهام ، بل استنتجت بعقليتها الفذة وحكمتها التي ناطحت السحاب يوم ذاك أن الله لن يخزيه ، ثم أخذته إلى ورقة بن نوفل ليدركا الأمر . وهذه طريقة عقلانية منطقية بدأت بالمقدمات وانتهت بالنتائج المترتبة على هذه المقدمات ، فيا لها من عاقلة ! ويا لها من حكيمة !
السيدة خديجة .. نصير رسول الله
وهذه السمة من أهم السمات التي تُميِّز شخص السيدة خديجة رضي الله عنها ، تلك المرأة التي وهبت نفسها ومالها وكلّ ما ملكت لله ولرسوله
، ويكفي في ذلك أنها آمنت بالرسول
وآزرته ونصرته في أحلك اللحظات التي قلما تجد فيها نصيرًا أو مؤازرًا أو معينًا .
ثم هي - رضي الله عنها - تنتقل مع رسول الله
من حياة الراحة والاستقرار إلى حياة الدعوة والكفاح والجهاد والحصار ، فلم يزدها ذلك إلا حبًّا لمحمد وحبًّا لدين محمد
، وتحديًا وإصرارًا على الوقوف بجانبه ، والتفاني في تحقيق أهدافه .
فلما خرج رسول الله
مع بني هاشم وبني عبد المطلب إلى شعاب مكة في عام المقاطعة ، لم تتردد - رضي الله عنها - في الخروج مع رسول الله
لتشاركه - على كبر سنها - أعباء ما يحمل من أمر الرسالة الإلهية التي يحملها ، فقد نَأَتْ بأثقال الشيخوخة بهمة عالية ، وكأنها عادت إليها صباها ، وأقامت في الشعاب ثلاث سنين وهي صابرة محتسبة للأجر عند الله تعالى .
وكأن الله اختصها بشخصها لتكون سندًا وعونًا للرسول
في إبلاغ رسالة رب العالمين الخاتَمة ، فكما اجتبى الله
رسوله محمد
واصطفاه من بين الخلق كافة ، كذلك قدَّر له في مشوار حياته الأول لتأدية الرسالة العالمية مَن تضارعه أو تشابهه لتكون شريكًا له في حمل هذه الدعوة في مهدها الأول ، فآنسته وآزرته وواسته بنفسها ومالها في وقت كان الرسول
في أشد الاحتياج لتلك المواساة والمؤازرة والنصرة .
فضائل السيدة خديجة
خير نساء الجنة
لا شك أن امرأة بمثل هذه الأوصاف لا بد أن يكون لها منزلة رفيعة ، فها هو الرسول
يعلن في أكثر من مناسبة بأنها خير نساء الجنة؛ فقد روي عن أنس بن مالك
أن النبي
قال : " حسبك من نساء العالمين : مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية امرأة فرعون ".
السيدة خديجة يقرئها ربها السلام
ليس هذا فحسب ، بل يُقرِئُها المولى
السلام من فوق سبع سموات ، ويبشرها ببيت من قصب في الجنة ؛ فعن أبي هريرة
أنه قال : أتى جبريلٌ النبيَّ
فقال : " يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي ، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ ، لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ ".
حب النبي لخديجة.. والوفاء لها
فكان حقًّا أن يكون لهذه الطاهرة فضل ومكانة عند رسول الله
، تسمو على كل العلاقات ، وتظل غُرَّة في جبين التاريخ عامَّة وتاريخ العلاقات الأسرية خاصَّة ؛ إذ لم يتنكَّر
لهذه المرأة التي عاشت معه حلو الحياة ومرها ، بل ويعلنها على الملأ وبعد وفاتها ؛ وفاءً لها وردًّا لاعتبارها : " إني قد رزقت حبها ".
ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل إنه
لم يكد ينساها طيلة حياته وبعد وفاتها ، إذ كان يكثر ذكرها ويتصدق عليها ؛ تروي السيدة عائشة - رضي الله عنها - فتقول : ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي
ما غرت على خديجة رضي الله عنها ، وما رأيتها ، ولكن كان النبي
يكثر ذكرها ، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ، ثم يبعثها في صدائق خديجة رضي الله عنها ، فربما قلت له : كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة . فيقول : " إنها كانت وكانت ، وكان لي منها ولد ".
وفاة السيدة خديجة
تاقت روح السيدة خديجة - رضي الله عنها - إلى بارئها ، وكان ذلك قبل هجرته إلى المدينة المنورة بثلاث سنوات ، ولها من العمر خمس وستون سنة ، وأنزلها رسول الله
بنفسه في حفرتها ، وأدخلها القبر بيده .
وتشاء الأقدار أن يتزامن وقت وفاتها والعام الذي تُوفِّي فيه أبو طالب عم رسول الله
، الذي كان أيضًا يدفع عنه ويحميه بجانب السيدة خديجة رضي الله عنها ؛ ومن ثَمَّ فقد حزن الرسول
ذلك العام حزنًا شديدًا حتى سُمي " عام الحزن "، وحتى خُشي عليه
، ومكث فترة بعدها بلا زواج .
قصة الإسلام / د. راغب السرجانى
